آصف قزموز: هكذا حصل في مخيم الوحدات في أحد المقاهي أواخر ستينيات القرن الماضي، حيث كان أحمد شاباً يافعاً ضئيل الجسم يجلس على المقهى بين رجال يكبرونه سناً وحجماً، وفجأه ينهره بسخرية رجل مصارع اعتاد السطوة والتعالي على الآخرين بفضل اعتداده بضخامة جسمه وسيطه كبطل مصارعة، فينتفض الشاب في وجهه رافضاً الانصياع له، فيقف المصارع متحفزاً للانقضاض على الشاب الصغير، ولكن سرعان ما وقف الرجال الموجودون يمسكون بأيدي المصارع ويمنعونه من الحركة بحجة خوفهم أن يقضي على الضحية المسكين، بينما تركوا الشاب طليقاً لا يحوشه أحد، وأخذ يتقافز من فوق أكتاف الناس ويسدد اللكمات على وجه المصارع المكبل بحجة انقاذ الشاب من بين يديه، واستمر أحمد بالإغارة وتسديد اللكمات لوجه المصارع لكمة تلو أخرى، ثم ولى هارباً، وما هي إلا لحظات وإذا بالمصارع دامي الوجه منتفخ العينين وهو يتوعد مزمجراً بالقضاء على أحمد، لكن أحمد اختفى ولم يظهر في المخيم، والمصارع أخذ يظهر على المقهى وعيون الشماته تحيط به من كل جانب، ملثماً بكوفية لإخفاء معالم وجهه وكرامته المبعثرة والمُفَجَّمة على يد أحمد الصغير، وفي أحد الأيام قرر المصارع انهاء المشكلة، وأرسل لأحمد محرمة الأمان وطلب منه أن يأتي كي يصالحه متعهداً أن لا يتعرض له ، ولما مثل بين يديه، أخذ يلومه قائلاً: ولك انتي عارف شو اللي اعملته فيي، ولك شو بدي أقول لأهلي وأنا راجع عالبيت امورَّم وجهي من ولد مثلك، كيف بدي أقنعهم إنو ولد زيك هو اللي عمل فيي هيك، شو بدي أرد عالناس اللي بيلاقوني وهم بيتهامسوا أحمد اللي كسَّر وجه بطل المصارعة، كيف بدي أقنع الناس ما حدا راح يصدق. صحيح إنو اللي بيفزع في الطوشِه إلو ثِلثين الكَتْلِه، إلاَّ أن القاعدة اختلفت هنا وفي النهاية، وراحت في كيس المصارع يا إخوان ولكن بفضل الفزِّيعة مش بقوة أحمد، فكان الفارق بين المصارع وأحمدْ، أوسع مما كان عليه لبيد وأربَدْ، والله تعالى أعلى وأحمدْ.
فها نحن نشاهد حالة التداخل واختلاط الحابل بالنابل، تشكل المظهر العام والشامل لحلبة الصراع ومسلسل التناقضات في المنطقة، وفي القلب منها فلسطين. وها هو موشيه يعلون وزير الحرب الاسرائيلي يقذف بحممه مهاجماً كلاً من تركيا وقطر، بدعوى أنهما تدعمان حركة حماس، وأن حماس حاولت القيام بانقلاب في الضفة الغربية ضد السلطة الفلسطينية، وكأنما يعبر من خلال ذلك عن حرص منه على أمن السلطة وسلامتها، مصوراً في ذات الوقت وكأن قطر وتركيا تعملان خارج سياج المصالح الاسرائيلية والأميركية في المنطقة. وهاهي السلطة الفلسطينية على لسان كبير مفاوضيها د.صائب عريقات تهدد أنه في حال استخدام واشنطن حق النقض في مجلس الأمن ضد مشروع القرار العربي الداعي لتحديد سقف زمني لا نسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلية من الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام1967، سوف تتقدم السلطة للانضمام الى 522 منظمة ومعاهدة وبروتوكولات دولية، ناهيك عن وقف التنسيق الأمني ودعوة اسرائيل لتحمل مسؤولياتها بهذا الصدد.
وبينما يجري انتقاد الولايات المتحدة من قبل أنقرة الحليف العضو في حلف الناتو، على قيام واشنطن بدعم الأكراد في سورية من خلال إسقاط الأسلحة لهم جواً، تعلن وزارة الدفاع الأميركية عن إسقاط أسلحة وقعت خطأً في أيدي داعش في مدينة كوباني، باعتبار الأمر صدفة خير من ألف ميعاد. وها هي حلب آيلة للسقوط بيد النظام تحت ناظري التحالف الدولي المتراخي أمام زحف داعش على المناطق الأخرى في غير مكان من سورية والعراق، وعلى راي المثل راح يتدخلوا بقوة ولكن بعد خراب حلب ومالطا منها وغاد.
وفي الوقت الذي تنتقد فيه موسكو واشنطن بشدة، على أن الأخيرة تتجاهل استخدام داعش للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في سورية والعراق، نلاحظ أن موسكو المدافع العنيد عن النظام في سورية تتجاهل هي أيضاً من جانبها قيام قوات النظام في سورية باستخدام ذات الأسلحة الكيماوية وأكثر ضد المدنيين الأبرياء. وهذا يشكل بحد ذاته أحد التجليات الفاضحة لصراع النفوذ وتزاحم المصالح بين الكبار من حساب ودم الأبرياء، أي أن معايير الإدانة بالإجرام والإرهاب لا يُسمح لها بالظهور ولا للقوانين المحددة لسماتها وتخومها بالفعل والإنفاذ، عندما يتعلق الأمر بمصالح أصحاب القرار والسطوة إن على مستوى المنطقة أو العالم ككل.
طيب ما علينا، هذه داعش التي اتخذت أشكالاً وموديلات وتجليات، تختلف في تسمياتها من بلد إلى بلد، تتبدى اليوم ظاهرة للعيان وتصم الآذان، في بلاد اليمن السعيد سابقاً، ونحن نشاهد مسرح العبث في صورة الصراع الدائر على أرضها، حيث يتسارع امتداد داعش وزحفها على امتداد البلاد وهي تدخل المدن بعد التهام العاصمة صنعاء برداً وسلاما وبتسهيلات فاضحة، ليصحو الرئيس علي عبدالله صالح من غفوته داعشيُّ الوجه واليد واللسان، وبأظافر مسمومة بامتياز وأسنان. فبأي لغة يمكن للمرء قراءة هذا المشهد، ونحن نرى النظام الحاكم في صنعاء ، وهو يقوم بتمكين داعش من البلاد والعباد في مؤامرة مكشوفة على الشعب اليمني، الأمر الذي يشي صراحةً، بأن الرئيس صالح قد أُخرج للناس من الباب ليعود الى المشهد مرةً أخرى من الشباك، ويتوَّج صالح مرةً أخرى كلاعب احتياط جاهز على رأس مشروعٍ ناجز. وهو ما من شأنه ليس إضعاف اليمن وتفكيكه وحسب، وإنما شحذ الخنجر اللازم في الخاصرة السعودية التي تدافع عن مصالحها وسياساتها بقوة للصمود في وجه العاصفة، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً، الدور الإيراني الداعم للحوثيين والمتنامي مع تطورات التفاوض اللامنتهي كقصة إبريق الزيت بشأن الملف النووي، والذي يتوقف عليه ضمان الدور الاقليمي اللاحق لإيران في المنطقة والوضع الجديد. كيف لا ونحن ما زلنا نرى الرئيس اليمني الحالي يفشل في التوصل لحكومة تقود البلاد في ظل احتلال داعش وكأن البلاد حرة طليقة !!
أي جنون هذا وأي صَلَف مع هذه الاختلاطات والتداخلات، والبعض ما زالوا يدفنون رؤوسهم بالرمال ويتصرفون وكأن هذه الحقائق غير مرئية ولا محسوسة بالنسبة لهم.
طيب، كيف يمكن تفسير وقراءة حقيقة أن أهل السُّنة يتحالفون مع داعش في العراق، والنظام في سورية في تحالف غير معلن لكنه ملموس وباين بينونة كبرى مع داعش، لا بل وأكثر من ذلك حين تشاهد طائرات التحالف تحلق جنباً الى جنب مع طائرات النظام في سورية في قصف داعش، وحتى السعودية دعمت في البداية جماعة النصرة وداعش، ولكن سرعان ما اختلفت الأمور وتغيرت المواقف والاصطفافات. ناهيك عن حلة الرَّخرَخَة والتراخي في مواجهة داعش، ليصوروا لنا داعش وكأنها قوة خارقة من أفلام الخيال العلمي لا يُطار لها على جناحٍ ولا يُسعى على قدَمِ.
وزير الدفاع الاسرائيلي أكد في معرض تصريحاته المتوالية، حتمية تغير حدود منطقة الشرق الأوسط ، لكن ما لم يصرح به يعالون وتطور الأحداث يشير إليه مخرجاً لسانه لنا، هو أن خارطة الشرق الأوسط الجديد ستشتمل على كيان فلسطيني بسقف إدارة ذاتية برنجي وبأحكام وشروط خاصة وحسب، ولن يرتقي لمستوى قيام دولة كاملة الأوصاف غير منقوصة، وإن أذنوا لنا انتحال إسم دولة وما هي بدولة، وهو ما تردد دوماً على لسان الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة عبر السنين وحتى يومنا هذا، لكن تظل المشكلة أن بعضنا إن لم نقل كلنا لا يريد تصديق هذه الحقيقة المتكررة على مدار صَم الآذان الدائم.
نعم يا سادتي، لم يعد بإمكان أحد أن يتجاهل هذه الحقائق وغيرها الكثير في متن التفاصيل وسجل المشهد الفاقع للأحداث.