فسحة للرأي

عتيق التيمي...حدس القائد وذكاؤه

سَري سمّور |
عتيق التيمي...حدس القائد وذكاؤه

 كتب - سَري سمّور *:  لم أختر هذا العنوان لهذه المقالة عبثا، فربما كثير من الناس لا يعرف أو يغيب عن ذاكرته بعض أسماء وألقاب هذا الرجل عظيم الشأن والقدر، ويتذكر فقط اسمه الذي اشتهر به كثيرا...أبو بكر الصدّيق-رضوان الله تعالى عليه- كما أن البعض قد ينسى نسبه إلى قبيلة «تيم» القرشية.

وأرى أن الرجل لم يأخذ حقه من البحث والدراسة، وكثافة ذكر المناقب بين عامة الناس أو حتى خاصتهم، ويغلب عليه صاحبه عمر بن الخطاب-رضوان الله تعالى عليه- في الاهتمام والدراسة، وحتى عباس محمود العقاد في عبقرياته جعل كتابه «عبقرية عمر» سابقا لكتابه «عبقرية الصديق» وهذا لا يعني أن عمرا قد أخذ حقه كاملا من الاقتداء والاهتمام وذكر المآثر والخصال والمناقب، بل يجب التعمق أكثر في سيرة عمر ومناقبه وفضله، ولكن ظل أبو بكر في الذكر وتداول الأخبار والمواقف متأخرا عن عمر، مع إقرار عمر نفسه، وقبله سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بأن أبا بكر هو الأخير والأفضل من بين المسلمين أجمعين، وهذا ما لا ينكره عامة الناس وخاصتهم ممن غلب عندهم ذكر مناقب ومواقف عمر بأكثر مما يذكرون مناقب وأخبار أبي بكر، ولعل السبب يعود إلى أمور عدة منها:-
1) أن النجوم الساطعة لا تراها الأعين إذا طلعت الشمس، وهكذا كان حال عتيق التيمي-رضي الله عنه- مع محمد بن عبد الله-صلى الله عليه وآله وسلم- فهو صديقه ورفيقه وصهره ولو كان متخذا خليلا لاتخذه خليلا كما في الحديث الشريف، ومن الطبيعي أن تغلب شمس محمد ونورها، ضياء نجم عتيق.
2) أبو بكر الخلافة مدة زمنية قصيرة(توفي سنة 13 هـ) وكان المسلمون حديثي عهد بفراق نبيهم وحبيبهم، وكان أبو بكر في خلافته يسير على هدي نبيه وصديقه دون تغير يذكر في أدوات الحكم والإدارة، ولعل ما اختلف هو انقطاع الوحي بموت النبي، ولم تكن الدولة قد توسعت واستقرت كما حصل في خلافة عمر، مع أنه كان في خلافة أبي بكر كثير من الفتوحات، ولكن عهد عمر شهد توسعا تبعه استقرار وتغيرات اجتماعية؛ فدخل في الإسلام كدين، أو في الدولة كرعايا، أو مواطنين بالتعبير المعاصر، كثير من الأقوام والأجناس، لم يعايشوا مرحلة النبوة مباشرة ،بينما في عهد عمر توسعت جغرافية الدولة كثيرا بما حوته من أقوام وشعوب جديدة تتطلب إدارة شؤونها إضافات اجتماعية وتطوير في أساليب الحكم والإدارة،وهذا ما برع فيه عمر.
3)  بناء على ما سبق فإن عمر يعتبر بحق من وضع أسس وأركان الدولة بمفهومها القابل للتطوير وفق هذه الأسس والأركان،لدرجة أننا في عصرنا هذا لا نزال نسترشد ونستذكر كيفية إدارته للدولة والحكم ونظامه،وهو بالتعبير المعاصر الرجل الذي سن القوانين المدنية والعسكرية وجعل لها ضوابط دقيقة، أما صاحبه عتيق فإن قدراته كما تدل سيرته ليست بأقل ولا أدنى،ولكن الظروف الزمانية والمكانية القصيرة كما ذكرنا لم تكن كذلك في زمن حكمه.
لا يغيب عن عامة الناس وخاصتهم المعالم البارزة في سيرة عتيق؛والجميع يعرفها ويرددها عن ظهر قلب؛ فهو على سبيل المثال لا الحصر أول من آمن وأسلم من الرجال، وهو من اشترى بماله العبيد المستضعفين أمثال بلال بن رباح  وزنيرة ليخلصهم من بطش مشركي قريش، وهو من صدق النبي في خبر حادثة الإسراء والمعراج قبل أن يسمع منه تفصيلاتها وحيثياتها، وهو رفيق النبي في الهجرة إلى المدينة، ونزل في مكوثهما في غار ثور قرآن يتلى:ثاني اثنين إذ هما في الغار،إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، وهو والد أول فدائية في الإسلام أسماء زوج الزبير بن العوام(الذي أسلم على يديه) وخبرها في حادثة الهجرة وبعدها معروف، ولقبها بعدها مشهور(ذات النطاقين)، وهو والد أم المؤمنين عائشة التي يعرف الناس كثيرا من خصالها وفضلها وحب النبي لها، وهو إمام المسلمين في صلاتهم في مسجد النبي في المرض الذي قبض فيه، وهو أول الخلفاء الراشدين الأربعة، وهو صاحب اليد والفضل في القضاء على الردة ودحر المرتدين، وهو مسيّر الجيوش إلى الفتوحات، وهو المدفون بجوار النبي في المدينة بحيث أن الملايين سنويا يسلمون عليه بعد سلامهم على المصطفى...وهذا غيض من فيض تلك المعالم البارزة التي يستوي في معرفتها طالب المدرسة والحاصل على شهادة الدكتوراه في السير والمناقب والأخبار.
فأبو بكر مدرسة كبيرة بل جامعة فيها كثير من التخصصات التي يمكنك دراستها بتعمق واستفاضة، ولا يتسع المجال في هذه المقالة إلى الدخول في أي جزء من أجزاء قسم ولو صغير من تخصصات جامعة الصدّيق-رضي الله عنه- ولكن سأحاول تناول جانب القيادة بشيء من التبسيط عند أبي بكر، وتلقائيا قد يتبادر إلى الذهن أنني أعني بالتحديد وفقط شيئا في فترة خلافة الصدّيق القصيرة زمنيا، والتي لم تتجاوز وفق التقويم الهجري سنتين وثلاثة أشهر، أي حوالي سنتين وشهر بالتقويم الميلادي، وهذا ظلم أو عدم موضوعية في دراسة معالم القيادة وعمرها الحقيقي عند أبي بكر.

والحقيقة أنني أريد الإشارة إلى مفهوم القيادة بمنظار أوسع من مسألة تولي الحكم والخلافة على أهميته، وأنا لن أغفل عنه بالطبع؛ فالقيادة عند عتيق التيمي موجودة وحاضرة في شخصيته وسلوكه قبل أن يتولى الخلافة بكثير، ومفهوم القيادة هنا هو استشعار المسئولية والإحساس بعبء الأمانة والتصرف بناء على ذلك.
كان أبو بكر يستشعر حقيقة العبء الملقى على كاهل الإنسان المؤمن المسلم، الذي ذاق حلاوة الإيمان، وامتلأ بنور هدي النبي، فأبو بكر في كل سكنة من سكناته أو حركة من حركاته كان يستشعر تلك المسئولية الكبيرة، وكان ما يصدر عنه من قول وفعل يتطابق مع هذا الشعور، وهنا الفرق بين القائد وغيره، والتمايز بين القادة أنفسهم؛ فقد يشعر كثيرون بالمسئولية، ولكن قولهم قد لا يتوافق مع هذا الشعور، وإذا تطابق القول، فإن الفعل قد ينعدم، أو قد يكون بحجم أدنى من استشعار الأمانة والمسئولية، وهذه مراتب ودرجات مهمة عند تصنيف الناس وفرزهم، أيهم قادة، ومن المميز بين القادة.
وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود مرفوعا بأن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- قال لأنس ابن أبي مرثد الغنوي حينما تطوع لحراسة المسلمين يوم حنين:استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يغرن من قبلك الليلة، وأورد هذا الحديث لأن الحديث الآخر (أنت على ثغرة من ثغر الإسلام...الحديث) والمتداول بكثرة ضعيف...وهذا هو معنى المسئولية التي يتحملها المسلم، ولا يقتصر الأمر على مقاتل يحرس، بل يتعداه إلى كل شأن من شؤون الحياة، وكما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال:» كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته».
وهنا تميز أبو بكر في فهم هذه المعاني، سواء قبل أن يتولى الخلافة أو بعدها، حتى لقي الله، بل إن خميرة القيادة-بالمعنى الذي ذكرناه- موجودة عند أبي بكر قبل الإسلام، فقد استأمنه القوم في موضوع الديات، وهو أمر له أهميته وحساسيته في تلك الأزمنة والمجتمعات، فكان خير من احتمله، وهو لم يشرب الخمر في الجاهلية أو الإسلام، لأنه يريد أن يصون عرضه ومروءته كما أوضح حينما سئل عن ذلك، وبعد اعتناقه الإسلام تصرف كقائد بمعنى أنه مسئول بكل ما يستطيع عن حماية الإسلام ونجاح دعوته، والعمل مع النبي لإبلاغ رسالته.
وعلى ضوء هذا المعنى للقيادة رهن أبو بكر كل حياته وما يملك للدعوة؛ فتراه لا يسير أي خطوة إلا والحرص على الدعوة تصبغ هذه الخطوة، وحينما اعتدى عليه المشركون خاصة عتبة وأغمي عليه من شدة الضرب، كان أول سؤاله حينما بدأ يفيق:ما فعل رسول الله؟ ولم يهدأ له بال حتى حمل إلى صاحبه في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومع أن معه عذره، ولكنه تصرف بما يستشعره من مسئولية وليس بما يكابده من ألم، أو ما قد يعذره الله ورسوله فيه وهو في تلك الحالة الصعبة.
أما ماله فكان كله لهذه الدعوة، ولم يلتفت وهو ينفقه لشراء العبيد المستضعفين وإعتاقهم إلى نصيحة والده، الذي كان يريده، وإن كان لا بد منفقا أمواله أن ينفقه على رجال قد ينفعونه وليس على مستضعفين لا حول لهم ولا قوة، وحينما جاء وقت الهجرة لم يترك لأسرته شيئا من المال.
أما الأولاد والبنات وسائر الأسرة فعلاقته بهم كانت وفق سيرهم مع هذه الدعوة، ولهذا لم يتردد في أن يبحث عن ابنه عبد الرحمن الذي كان ما زال على الشرك يوم بدر ليبارزه فيكون قاتلا أو مقتولا...كل شيء في حياته هو للدعوة، وكل سلوك يسلكه ينسجم مع هذه الدعوة وتلك هي ما يسميه بعض خبراء التنمية البشرية بممارسة القيادة بمبادرة ذاتية.
ومن معالم القيادة عند أبي بكر الحدس والذكاء؛ فربما يغيب عن بعض الناس أن أبا بكر كان من نسابة العرب المرموقين، وكان يعرف بحكم سفره للتجارة كثيرا عن أحوال البلاد والعباد، وربما من يعرف أنه كان نسابة يظن أن الصفة تقتصر على نسبة الشخص للآباء والأجداد والعشيرة، ولا يعرف أنها تعني أيضا معرفة الخصال والطباع والأحوال.
من هنا كان حدسه ومعرفته أين يمكن أن تسير الأمور؛ والتصرف بذكاء بناء على هذه المعرفة  ساعد في استمرارية نجاح الدعوة وانتشارها؛ فحينما توفي النبي-صلى الله عليه وسلم- أدرك بحدسه أن هناك من سيجزع وهناك اضطراب سيحصل، وتصرف بمسئولية القائد الحريص على استمرارية الدعوة، ولم يكن بأقل حزنا من غيره على صاحبه، ولكنه تحرك بدافع العقل لا دافع الحزن، مثلما فعل غيره، ولهذا طلب من عمر أن يهدأ وقال مقولته المعروفة:من كان يعبد محمدا-صلى الله عليه وسلم- فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت...فهو أدرك أن الدعوة الآن دخلت مرحلة جديدة ويجب الانتقال إلى المرحلة الأخرى والعمل على الحفاظ على اتزان الأهل والصحب.
وبحدسه أدرك أن مسألة خلافة النبي باتت مطروحة، وأن الأنصار المجتمعين في سقيفة بني ساعدة الخزرجية، يجب أن يؤخذوا باللين والحكمة الممزوجة بإشعارهم بالمحبة والود، لا الاستعلاء والغلبة من معشر المهاجرين، ذلك أنه يدرك أن الخلافة لا تصلح أن تكون في الأنصار لأنهم حيان بينهما دماء عمل الإسلام على تخفيف أحزانها وتبعاتها، ولكنها ستخرج من تحت الرماد لو تولى الخلافة خزرجي أو أوسي، فتكون الدعوة التي يسعى لنشرها في أرض الله الواسعة في خطر، فحينما يهتز المركز تضطرب الأطراف، وفي ذات الوقت لا ينبغي إغضاب الأنصار وهم أصحاب المكانة الرفيعة والفضل الكبير، ونجح في إحداث هذا التوازن، ووأد ما كان يمكن للشيطان أن ينجح فيه من حياكة فتنة كانت ستعصف بأمة ودولة وليدة، وما كان له مطمع شخصي، فمن رهن حياته وقدم المال والأهل في سبيل هذه الدعوة، لا يطمع إلا بما ينفع الدعوة، وما كان في سيرته حينما صار خليفة أي شك بأنه رجل لا تساوي الدنيا عنده درهما ولا أقل من ذلك...فعالج الأمر بعدما دله حدسه على ما قد يحصل من عواقب بذكاء لا تخطئه الأبصار.
والحدس والذكاء يتجليان في أمرين وقت خلافة أبي بكر في أبرز حدثين في زمانه؛ وهما تسيير جيش أسامة بن زيد، وحروب الردة؛ فأما تسيير الجيش إلى حرب الروم في الشام وهو جيش قد تم تجهيزه والنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- حيّ، واستجد في الأمر ما كان من الردة وتحركات مدعي النبوة أمثال مسيلمة، ولكن أبا بكر أصرّ على إرسال الجيش وكأن النبي حيّ، وكأن لا متغيرات عسكرية وعقائدية في جزيرة العرب، وهذا –برأيي- ليس فقط من باب الوفاء والإخلاص للنبي، مثلما يختزله بعض من يتحدث عن الأمر؛ بل لأن ما استجد من أمور يتطلب إرهابا لمن يتربص بالدعوة والدولة الوليدة شرّا، فمن كان يفكر في غزو الدولة من خارجها سينشغل بهذا الجيش، ويعلم أن الأمة ما زالت قوية حتى بعد وفاة النبي، وأنها قادرة على خوض حربين متزامنتين، وأما الرسالة الموجهة للمرتدين المتربصين بالمدينة والدعوة، فهي أنهم لا يرهبون هذه الدعوة ورجالها، وأن خطتهم تسير كما لو أنهم غير موجودين، وهذا سيحدث فيهم هزيمة نفسية.
وفي حربه للمرتدين يتجلى حدس عتيق التيمي، وما عنده من علم بالأنساب يخوّله لمعرفة طباع من نكصوا وفرقوا بين الصلاة والزكاة وأن الحل معهم يكون فقط بالسيف ولو أدى ذلك لاستشهاده ومن معه، وقد خاض الحرب معهم بلا هوادة، ونصره الله بعد أن أخذ بالأسباب بتعيين قادة جيوش الحرب على هذه الزمرة المرتدة، فقطع دابرهم، وهو لا يريد الانتقام بقدر ما يبتغي الحفاظ على الدعوة وضمان تقدمها، لأن الخطوة التالية هي الاستمرار بنشر الدعوة خارج الجزيرة، بعد أن تنتهي هذه الفتنة...فتصرف بذكاء خلفيته حدس لا يخطئ، متحركا باستشعار مسئوليته كقائد مطلوب منه نصرة وقيادة سفينة هذه الدعوة وضمان استمراريتها ونجاحها، وهذا ما كان.
وبعد فإنني آمل أن تكون مقالتي بداية لتجديد نشر فضائل هذا الرجل، والنظر إلى أخباره من زوايا جديدة، وقراءتها بطرق مختلفة، فأنا لم آت بجديد مما حوته الكتب، ولكن أحب النظر إلى الحدث والخبر بأكثر من زاوية، وقراءته بغير طريقة، فعتيق التيمي، أبو بكر الصدّيق-رضي الله عنه- كما قلت جامعة كبيرة ناجحة، يجب ألا نتوقف عن التعلم منها والتنوّر بأنوار علومها الكثيرة.
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله ،ورضي الله عن أبي بكر وسائر الصحابة الأخيار.

* كاتب فلسطيني/ جنين

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد