فسحة للرأي

كل ماركت وانتم بخير

جواد بولص |
كل ماركت وانتم بخير

كتب - جواد بولص:  في البيت حالة من فوضى كفوضى نهر؛ الاولاد الصغار يتصارعون كجراء تتعلّم قواعد القتال والصيد من اجل البقاء، اصغرهم يقتحم الصالون، يبكي على مسدس اضاعه وقلمِ ليزر، ويتّهم قريبه بالجناية. من الغرف تخرج الفتيات كاملات الحسن والزينة، جميلات كما يليق بالقمر، امهاتهن يدققن بآخر تفاصيل وجوههن، ويمررن، بخفة ساحرة، ايديهن على البطون والاوراك، ليتأكدن من انوثة ما زالت دافقة رغم انف الاربعين والخمسين. الرجال والشباب يتمنون لهن جولةً موفقة في سوق الميلاد، او ما صار يعرف في بلادنا "بالكريسماس ماركت".

البيت يستنشق قسطًا من هدوء نسبي، فالضجيج خبا وغادر لصالح نقاش دارت رحاه، بين من بقي، حول ظاهرة هذه الاسواق التي ما فتئت تتفشى في قرانا ومدننا. 
بالقرب منهم، تمددت على كنبة، امامها اشعلت صوبةً كهربائيةً، وكنت اصغي، حينًا، لمجادلاتهم التي احتدمت في بعض محطاتها واحيانًا، استمع لجوقة لبنانية ترتل تراتيل الميلاد. 
ارتميت، متخمًا، وما بين صحو واغفاء استقبلت صورًا من شعائر ميلادي الخاص.
لا اذكر متى توقفت عن ممارسة طقوس الصلاة التي كنت اسيرها وانا طفل لا يعرف من المشاعر الّا اطرافها الحادة. كنت كاترابي نمارس الفرح عاريًا من زوائد النضوج والتبرّج، ونحزن من غير مراسم، كجداول تبكي شحًّا وتدمع على فراق ضفافها. "انانا" كانت هشّة كجناحي فراشة، جاهزة للخوف والارتباك والحب. لم يسكننا قلق، فهذا همّ البالغين او العاشقين.
لا اتذكّر متى بدأت اطلب من يسوع ان يحبّني، وان يبعد عني المرض، وينجّحني في دروسي، وان يجعل من احبهم يضحكون في وجهي ويحبونني. كنت اتمتم دعائي ثلاث مرّات، باسمي وبالنيّابة عن ابناء بيتي، وعندما اكون منهكًا، لم اتنازل عن رفع الدعاء لكنني، كنت اتلوه كطلقة وانا على فوّهة اغفاءة، متاكدًا ان يسوع سيفهم صلاتي، مهما كانت "مجعلكًة"، فهو يسمعها كل ليلة، وسيقبلها، لان مطالبي كانت بحجم قلب يحب، وابسط من شفاء ابرص.
كنا ننتظر الميلاد بفرح عظيم، فهو عيدنا، نحن الاطفال، وعيد الوداعة والسلام. مع اقترابه كانت عطلتنا المدرسية تبدا، ومعها كنا ننطلق قطعان احصنة افلتت لتعانق المدى، ونستسلم لاغواء الحواكير وحضن الحارات. ميلادنا كان شجرةً تنير القلوب وفي صدرها نودع كمشة اسرارنا، ذهب تلك الايام وكنوزها، ونذهب لننام على وسائد من دفء وملابسنا الجديدة التي كنا نفوز بمثلها مرّة كل عيد. 
ليلة الميلاد كانت ليلة من نبيذ ونشيد وكستناء، ليلة تصير فيها بيوت القرية البسيطة قصورًا من حب وتسامح، وفيها تسجن الملائكةُ شياطين الشقاق والنفاق والرذيلة، وتفتح للعالم شبابيك الرحمة والالفة والعشق. في الميلاد كانت القرية تودّع عهدًا من حب عتيق وتستقبل وعدًامن حب جديد قشيب.
في الصباح، كنا نفيق على صوت الندى، ونخف لنمتلئ بجديدنا؛ في البيت ابخرة بنكهة دجاج محشي تنبعث من طناجر امي وتملا فضاء الحارة برائحة مشتهاة. شوارع القرية، رغم ضيقها، كانت تعج باسراب مزركشة من العائلات، تطوف على الاهل والاقارب والمحزونين والجيران؛ كانت قريتنا تصير بيتًا واحدًا يردد مزامير المحبة والمروءة والوفاء.
كان يسوع يحب كل القرية، كنا نطمئن له، ننام وعلى جفوننا نجمة تضيء وتحرس. احسسناه في بيتنا، في حاراتنا، لم يسرقه احد ولم يحجبه شيء، كنا على يقين انه معنا ومع الفقراء امثالنا، ويحب اطفال العالم مثلنا، كان يسوعنا عادلًا ومنصفًا للمظلومين، وقد جاء فافتدى البشر، كل البشر، وخلّصهم من خطاياهم، وكنا لا نقلق عليه ولا منه، فالقلق والشك شيم الكبار، والحاسدين.
كم كنّا صغارًا وانقياء، لم ندرك ان يسوعنا، سيصير "مسيحيًا"، كما يريده كبار اليوم ويعبده صيارفة الهياكل الحديثة- كل وفقًا لعملته وفضّته. 
هجرتنا الطفولة فاستوطن الشك، ذهبت البراءة فغاب اليقين؛ لا اتذكر متى توقفت عن استجدائي يسوع وبدات التفتيش عليه. ربما عندما اكتشفت انه لا يرقّ لعاشق ادمته سهام الحاقدين والعواذل، او ربما عندما زرت بيت - لحم ورايت مهده محاصرًا سليبًا ومهانًا، وسمعت شعبه يصلي لخلاصه عبثًا، لان الغلبة كانت من نصيب "البربر والشرير". 
كبرنا وضاع يسوعنا، افتش عنه فلا اجده الا طفلًا ذارعًا معي شوارع تلك القرية الوادعة التي كانت قريتي وقريته، اعود وافتش عنه فاجده في صلوات حكّام يستعينون به في الصباحات، وفي الليالي تسلخ سياطهم جلود المؤمنين الوادعين، استجير به مجدّدًا، من اجل فقراء مخيم يتضور ابناؤه جوعًا ويشبعون تنكيلًا وتشريدًا، فاجده يصب بركاته في خوابي من يكدسون الاطيان والذهب والماس. 
كانت قريتي عالمًا من نور وطمانينة، وكان معها يسوع وفيها، صار العالم قرية من سراب وظما، فضاع يسوع وحار الناس فيه. ربما، لهذا، هكذا وانا على كنبتي فكّرت، يقيمون اسواق الميلاد من اجله في جميع المدائن، عساهم يهتدون عليه هناك في "الكريسماس ماركتز"، بين بسطات الباعة والدلّالين، الم يعلّموهم انه "اخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقد قلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام".
احتدم النقاش في البيت وعلا صياح. افقت على احدهم يجزم ان العالم تغيّر وان لا باس في هذه الاسواق، فخيرها وريعها اكثر من سلبها وسخطها، وثان وافقه متحفظًا على من يسيّس السوق والمناسبة والذكرى.
حاولت ان اتدخل لاهدا، فاسكتني طالب الحكمة، وذكّرني بصرخة صديقي الشاعر جريس سماوي حين انشد:
"ان روما التي سرقت ديننا، مثلما سرقت حنطة الروح، من كلّ اهرائنا، لم تزل تستبيح الذُرى، هل ترى يا ابي، هل ترى؟"
رويت لهم ما جال في خيالي وانا على تلك الكنبة، وكيف كان ميلادي وكيف تهت، فعلّق مؤمن على حديثي وقال: "ان يسوع في داخلكم ابحثوا عنه تجدوه"، فوعده الجميع ان يفتشوا عنه وان يخبروا مؤمنًا اذا وجدوه. وتمنى الجميع للجميع ميلادًا مجيدًا وسعادة.

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد