تقارير وتحقيقات

لم تثبت إدانتهم.. في غزة.. رصاصاتٌ "غير شرعية" تُزهِق أرواح متّهمين بالتخابر

|
لم تثبت إدانتهم.. في غزة.. رصاصاتٌ "غير شرعية" تُزهِق أرواح متّهمين بالتخابر

 اخباريات (خاص) تحقيق/ محمد عثمان - غزة: أربع سنوات ونصف كانت مدة كفيلة لتنتهي خلالها قضية المُتهم بالتخابر مع إسرائيل أ.د والموقوف منذ عام 2010 إما بالإدانة أو البراءة.. إلا أنه برصاصة واحدة ودون أمر قضائي تحول من موقوف إلى معدوم.

وما بين الإيقاف الذي امتد لسنوات، والرصاصات التي لم تأخذ في طريقها إلى جسده سوى ثوانٍ معدودة، تفاصيل كثيرة أخفاها الموت.
 فالشاب "أ.د" دخل إلى السجن متّهماً بالتخابرِ مع الاحتلال وهو في التاسعة عشر من عمره تاركاً خلفه زوجته وابنه الوحيد، وخلال خمسِ سنوات قضاها في أقبية "سجن الكتيبة" لم يُدان، وكان يأمل الإفراج عنه بحكمٍ قضائي يرى بعده ابنه الذي كبر بعيداً عنه، ويُرمّم حياته قدر استطاعته، غير أنه أثناء الحرب الأخيرة على غزة انتهى حلمه بعدة رصاصات سمع صوتها وأردته قتيلاً.
يقول والده الستّيني إنه ورغم شهادة العديد في المحكمة لصالحه خلال سنوات توقيفه وعدم توجيه لائحة اتهام ضدّه، إلا أن المسلحين أعدموه ميدانياً في الحرب برِفقة خمسة عشر آخرين وفق ذات التهمة دون صدور أي أمر قضائي بإعدامهم.

فصول الحكاية
في العشرين من شهر أغسطس من عام 2014، أي في الأيام الأخيرة للحرب التي استمرت واحداً وخمسين يوماً، حاولت إسرائيل اغتيال القائد العام لكتائب القسّام، الذراع المسلّح لحركة حماس، محمد الضيف، واستشهدت زوجته وابنه اللذان كانا في المنزل المُستهدف بمدينة غزة. 
وفي اليوم التالي اغتالت إسرائيل ثلاثة قادة قسّاميين في أحد المنازل بمدينة رفح جنوب القطاع، هم محمد أبو شمّالة ومحمد برهوم ورائد العطار.
بعدَ ساعات قليلة على اغتيال إسرائيل للقادة الثلاثة، اقتاد بعض المسلّحين في الثاني والعشرين من أغسطس، أحد عشر متهما بالتخابر من الموقوفين في سجن غزة المركزي والمعروف باسم "الكتيبة"، ثمانيةٌ منهم موقوفين منذ أعوام ولم يدخلوا أي درجةٍ من درجات التقاضي، بالإضافة إلى اثنين محكوميْن أحدهما مؤبد والآخر إعدام كانا لا يزالان ينتظران البت في الاستئناف، والأخير حُكم خمسة عشر عاما قضى أكثر من ثلثها في السجن وجميعهم قُتِلوا برصاص المسلحين أمام مرأى المواطنين.
كان المسلحون يرتدون ملابس سوداء اللون ومتشابهة لا تدلّل على انتماءاتهم الفصائلية واقتادوا عدداً من المتّهمين المغطّاة رؤوسهم إلى ميادين عامة حيث أعدموهم بعد إعلانهم عن مكان ووقت التنفيذ وآلياته.
الفصول الأولى لعمليات الإعدام بدأت بعد مرورِ نحو شهرٍ على الحرب، وتحديداً في الخامس من شهر أغسطس، إذ اقتاد مسلّحون خمسة متهمين محكومين بأحكام الإعدام، والتي تسقط قانوناً جرّاء رفع قضاياهم إلى محكمة الاستئناف لإعادة النظر فيها، وتم إعدامهم ميدانياً رمياً بالرصاص دون الانتهاء من إجراءات المحاكمة.
 
شرعنة الإعدام
أرفق المسلحون عمليات الإعدام بورقة عُنونت بـ"موجز لأهم بنود الإدانة"، حصلنا على نسخة منها، وكتبوا فيها أن المعدومين وجاء قدّموا معلومات للعدو عن أماكن رباط وأنفاق وعبوّات ومنازل مجاهدين وصواريخ قام الاحتلال بقصف غالبيتها، ونتج عن ذلك العديد من الشهداء المقاومين. وبناءً عليه تم تنفيذ حكم العدالة الثورية، وفق الورقة.
التهم الواردة في حيثيات حكم المسلحين على من تم إعدامهم لا تنطبق عليهم، إذ أنهم كانوا محتجزين في سجن الكتيبة منذ سنوات على ذمم الأجهزة الأمنية والقضاء العسكري.
وحسب تصريح على شِشنية، المتحدّث باسم لجان المقاومة، إحدى فصائل المقاومة التي نسّقت ووافقت على عمليات الإعدام وفق اعترافها، فإنه كان يجب أن يتم تطهير غزة من "الزمرة التي تحاول قتل القادة والمجاهدين"، وفق وصفه.
يؤكد ششنية على عدم رغبتهم كفصائل للمقاومة من تشكيل محكمتين تحكمان في قضايا التخابر مع وجود محاكم وقضاة ومحققين لدى الأجهزة الأمنية في غزة، إلا أنه أشار إلى أن المحاكم الثورية في الميدان شُكّلت بالتنسيق مع ألوية الناصر صلاح الدين وبقية فصائل المقاومة الفاعلة على الأرض لمحاكمة المتهمين. 
مضيفاً :"لطالما عانينا من الزُمرة الفاسدة في المجتمع والتي أرّقت مضاجع المجاهدين وأزعجت طريقهم للنيل من العدو، وبالتالي لابد من استئصال هؤلاء الفاسدين والأشرار من المجتمع، فكان لِزاماً علينا بالتوافق مع باقي الفصائل تشكيل لِجان ومحاكم ثورية كاملة ومقاضاتهم والقصاص منهم".
ويعترف شِشنية أن ردهم عند اقتراح تشكيل المحاكم كان إيجابياً، مطالبا بأن يكون الإعدام سريعاً وبلا شفقة بمن أسماهم "القتلة المجرمين". موضحاً :"كانت هناك مشاورات مع جناحنا العسكري وبعض اللقاءات مع قائده العام حول هذه القرارات السريعة التي كانت يجب أن تحصل في وقتها، وكانت الموافقة والمساندة والتجهيز لما بعد ذلك". 
 
غير قانوني
من جانبها رفضت وزارة الداخلية بغزة ما حدث من عمليات إعدام ميدانية، حيث يصف المتحدّث باسمها إياد البُزم الأمر بـ "غير القانوني"، مؤكداً أن عملية الإعدام نفّذتها الفصائل الفلسطينية في فترةٍ استثنائية.
غازي أبو وردة، محامي مجموعة من المتهمين المدنيين المعدومين، يبيّن عدم جواز ما قيل عن إعدامهم وفق أحكام محكمة ميدانية ثورية، مشيراً إلى أنه ووفقاً لقانون العقوبات الفلسطيني الثوري للعام 1979، فإن تلك المحاكم شُكّلت فقط للعسكريين أثناء الميدان.
أبو وردة الذي كان موكّلاً عن أربعة من المعدومين، يؤكّد على أن أحدهم برّأت المحكمة ساحته من تهمة القتل، فيما حكمت عليه خمسة عشر عاماً بتهمة التخابر، وقضى أكثر من ثلثها داخل السجن. غير أنه فوجئ واستغرب من إعدامه، موضحاً :"قتل المتهمين حصل بلا سبب، فأحدهم قضى أكثر من ثلث محكوميته في السجن ولم يخرج منه طيلة تلك الفترة، واقتيد من داخل السجن وقُتل، وهذا غير قانوني أو أخلاقي أو دستوري، وحسب قانون المحاكمات لا يجوز محاكمة الإنسان مرتين على ذات التهمة".
ويُشكّك البعض في جدّية محكمة الميدان التي قالت المقاومة إنها شكّلتها للمتهمين. إذ يقول المحامي هاني رضوان، الموكّل عن مجموعة من المتهمين المعدومين :"إذا كان في الميدان كما قِيل محاكم ثورية أو عسكرية، مَنْ كان قائم عليها يجب أن يُساءَل، من الذي دفع به، وما الحكم والقرار الذي أصدرته المحكمة ليتم إعدامهم؟ وبناءً على ماذا؟، فنريد جهة عُليا أيضاً تساءِل حتى يستقر تفكيرنا كمجتمع ونشعر بالأمن والأمان".
بالبحث في قانون أصول المحاكمات الجزائية الثوري الفلسطيني الصادر عام 1979 يتبيّن أن المحاكم الثورية تنقسم إلى خمسة أنواع، هي المحكمة المركزية، والعسكرية الدائمة، ومحكمة أمن الثورة (المحكمة العسكرية العليا)، والمحكمة الخاصة، ومحكمة الميدان العسكرية.
وتنص المادة (123) من القانون على أنه "تختص المحكمة العسكرية الدائمة بحكم ولايتها بالنظر في كافة الجرائم ما لم يرد نص خاص على الاستثناء". 
فيما نصّت المادة (126) على أنه تختص محكمة أمن الثورة (المحكمة العسكرية العليا) "بالنظر في الجرائم الواقعة على أمن الثورة الداخلي والخارجي وكل جريمة أخرى قرّر لها قانون العقوبات الثوري عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام والجرائم الخطيرة التي يرتكبها المدنيون أو المناضلون مهما كانت صفتهم أو حصانتهم وفقاً للقانون".
 
محكمة الميدان
خلال البحث في قانون العقوبات، عثرنا على مواد تؤكّد أن محكمة الميدان التي نصّ عليها القانون لا تختص بمحاكمة من أُلقي القبض عليهم خارج ميدان الحرب، كما الحال في أمر المتهمين الذين أُعدِموا في الحرب الأخيرة. حيث تنصّ المادة (130) على أنها "تختص بالنظر في الجرائم المرتكبة خلال العمليات الحربية على النحو الوارد في قرار تشكيلها وفقاً للقانون".
بعد التواصل مع عدد من الجهات الرسمية في قطاع غزة، من بينها القضاء والادّعاء العسكريّين ووزارة الداخلية، استنكرت جميعها عمليات الإعدام وقالت إنها لا علاقة لها بها، ما يعني أن تشكيل المسلّحين ما أسموه محكمة ثورية ميدانية، عدا عن عدم اختصاصها، فإن الأمر افتقد لمجموعة من الشروط التي تعطيها الشرعية، والتي تبرز في المادة (129) من ذات القانون وتنص على أن "المحكمة تشكَّل بقرار من القائد الأعلى، من رئيس وعضوين أحدهما على الأقل حقوقي، ولا تقل رتبة الرئيس عن رائد، كما لا تقل رتبة كل من العضوين عن نقيب، ولا يجوز محاكمة أحد الضباط أمام محكمة يكون رئيسها أدنى منه رتبة".
المحاكم مختلّة الشروط التي شكّلها المسلحين بما يخاِلف القانون، حاكمت المتهمين الموقوفين والمحكومين ولم توفّر لهم أي ركن من أركان العدالة، وهو انتهاك واضح للمادة (132) من القانون نفسه، والتي تنص على أنه "تطبّق محكمة الميدان الأحكام المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية الثوري ما أمكن، وتراعي حق المتهم القانوني في الدفاع عن نفسه".
 
فصائل المقاومة
تصدّرت كتائب القسّام، الذراع المسلّح لحركة حماس، مشهد الإعدام في وسائل الإعلام، غير أن معدّ التحقيق لم يستطع الوصول إليها للحديث معها. إلا أنه تواصل مع لجان المقاومة إحدى أهم الفصائل التي أعطت مباركة منقطعة النظير لعمليات الإعدام.
يقول المتحدّث باسمها علي ششنية إن المحاكم الثورية أصدرت القرارات التي ارتأت أنها مناسبة، متابعاً :"كانت المحاكم تعلم من هم المتهمين ومدى تلطّخ أيديهم بدماء المقاتلين، وما كانوا يرتأونه مناسباً كّنا ننسجم معه".
وعمّا إذا كانت لجان المقاومة تعلم عن محاكمة المتهمين المعدومين أمام محاكم تابعة للقضاء العسكري قبل الحرب تحت مسمّى محاكم ثورية، أجاب ششنية :"يعيش المجتمع في حالة حرب شاملة من قِبل عدو غاشم ينال من كل أجزائه، قادة وكبار وأطفال، هل يا ترى سنقف عند تغوّل هؤلاء العملاء بضربهم لكافة مناحي الحياة؟، بالتالي كان على المقاومة أن تجهّز لهم محاكم سريعة ومستعجلة!!"
ويقول ششنية إنه لم يتم إعدام أي متّهم بالتخابر إلا بحضور ملفاته كاملةً أمام الأجهزة الأمنية والمحكمة، كاشفاً عن قيام الأمين العام للجان المقاومة بالإطّلاع عليها ومراجعتها، في إشارةٍ إلى أن تلك المحاكم شُكّلت بعضوية قادة الفصائل وليس كما نص عليها القانون.

الصليب الأحمر
تُعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر إحدى أهم المنظّمات الدولية التي تطّلع بشكلٍ دائم على أوضاع السجناء والمعتقلين عموماً، وقضايا المتهمين بالتخابر بشكلٍ خاص. راسلناها للرد على بعض التساؤلات، فكانت إجاباتها دبلوماسية ومقتضبة. وأكّدت على أن العقوبات بحق المعتقلين يتم بحثها بطريقة ثنائية وسرّية ومباشرة مع السلطات.
وقالت في إجاباتها :"إن القانون الدولي الإنساني الذي تعمل في الأراضي المحتلة على أساسه لا يمنع عقوبة الإعدام بحد ذاتها، ولكنه يتضمّن مبدأ عدم تنفيذ أي حكم بدون إجراءات قانونية يتم  اتخاذها من قِبل المحكمة. وهذه الإجراءات التي تعتبر ضمانات قضائية يجب أن تكون متاحة ومتوفّرة لأي معتقل من أجل ضمان محاكمة عادلة، مع احترام تلك الضمانات في كل الظروف، بغضّ النظر عن طبيعة أو خطورة الجُرم الذي يُحاكم الشخص عليه".
 
وثائق تنفي الإدانة
في تحقيقنا الاستقصائي الذي استمر لأكثر من شهر ونصف، حصلنا على أحكامٍ قضائية صادرة عن القضاء العسكري بغزة بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية، مروّسةً من المحكمتين العسكرية العليا والدائمة، وهما جزء من محاكم الثورة التي كان يُحاكم أمامها المعدومين. في دليلٍ على وقوف المتهمين أمامها قبل الحرب، واثبات رسمي وقاطع على عدم قانونية الإعدام.
تقضي تلك الأحكام بإسقاط الدعوى الجزائية بحق المتهمين والموقوفين بسبب "الوفاة"، وهو تأكيد واضح على أن منفذي الإعدام الميداني انتهكوا القانون وأصول التقاضي بإعدامهم المتهمين، ونصّبوا أنفسهم كقضاة وجلّادين، دون وضع أي اعتبار للقانون. ومتجاوزين المحاكم المشكّلة لهم.
واعتمدت الأحكام القانونية من قِبل القضاء العسكري الذي كان ينظر قضايا المتهمين المعدومين على وصفي "المستأنِف" و "المتهّم"، للدلالة على أنه لم يصل لإدانتهم حتى الوقت الراهن أو تثبيت الأحكام عليهم. 
إسقاط الدعوى الجزائية جاء وفقا للمادتين، (317) من قانون أصول المُحاكمات الجزائية الثوري، و (9) فقرة (11) من قانون الإجراءات الجزائية رقم (3) لسنة 2001، واللتان تقضيان بإسقاط الدعوى الجزائية في حالة وفاة المتهم.

لا يشكّلون خطر
منسّقة وحدة تقصّي الحقائق وإدارة الشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بغزة المحامية صبحيّة جمعة، تؤكد أن حالات الإعدام كانت غير قانونية أو مبرّرة، قائلة :"في حينها قالت الهيئة أن الإعدام كان خارج إطار القانون، إذ أنه لطالما أن السجون كانت مفتوحة خلال الحرب ووجود محاكم وسيطرة على الوضع الميداني، فكان بالإمكان اعتقالهم لو كانوا مضبوطين في الميدان، أما من كانوا معتقلين بالسابق فكان يتوجّب أن يأخذوا حقوقهم مهما كانت تهمهم".
واتفق معها الخبير الأمني والسياسي د.إسلام شهوان، مؤكّداً على أن غالبية الإعدامات حدثت  خارج إطار القانون وأثناء اعتقال المتهمين أو توقيفهم لدى أجهزة الأمن وعلى ذمم القضاء.
من جهته، يرى المحلل السياسي د.عدنان أبو عامر، أن الإيمان والتفهّم لمحاربة ظاهرة التجسّس كان لابد وأن يأتي معه مسوّغ قانوني لطبيعة أي إجراء جنائي أو أمني قد يتم اتخاذه بحق هؤلاء المتّهمين بما لا يخل بالحالة القانونية العامة ولا يحمّل عائلاتهم أي آثام، حسب قوله.
ووفق المستشار القانوني الدكتور عبد الكريم شبير فإنه تم ارتكاب جملة من الأخطاء خلال عمليات الإعدام، مشيراً إلى أنها تكمن بالتسرّع في الإعدام ذاته قبل اتخاذ الإجراءات القانونية في محاكمة المتهمين، وإعدامهم في الميدان قبل المحاكمة أو إصدار حكم نهائي ومصادقة الرئيس عليه.
مضيفاً :"إذا كان المعدومين محتجزين منذ سنوات في السجن، فان الحكومة في غزة والأجهزة الأمنية والقضائية والنيابة هم المسئولين عنهم مسئولية قانونية لأنهم بحوزتهم وتحت إمرتهم وهم الذين أوقفوهم بالقانون، وإذا لم يصدر بحقهم أحكاماً من محكمة القضاء العسكري، وإذا كانوا محكومين لكن لم تؤيّد أحكامهم من محكمة الاستئناف ولم يُصادَق عليها حسب الأصول الدستورية والقانونية ونُفّذ فيهم الإعدام، فهو تنفيذ خاطئ ومخالِف للقانون، ولا يجوز لأي جهة أيٍ كانت أن تنفّذ إلا من خلال القانون الحامي والضامن لكل الشعب".
وبيّن قانون مراكز الإصلاح والتأهيل الفلسطيني رقم ( 6 ) لسنة 1998م  في مادته السابعة أن المساجين داخل السجن يكونوا على عهدة مدير المركز الذي يتبع اختصاصات وزارة الداخلية. ويعني ذلك أن مسئولية أخرى تقع على عاتق وزارة الداخلية وسجونها.
تؤكد سجلّات المحاكم والمحامين على أن جميع من تم إعدامهم كانوا يقضون فترات توقيف وسجن ما بين عامين إلى ستة أعوام، ومن بينهم من يقضي فترة محكوميته التي تصل إلى خمسة عشر عاما، فهل بالفعل كانوا يشكّلون خطرا على أمن المقاومة والشعب في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة؟
المستشار شبير يشير إلى أنه من أُلقي القبض عليهم قبل الحرب لم يُشكلّوا أي نوع من أنواع الخطر، خاصة في ظل وجود إجراءات قانونية وقضائية يتم اتخاذها بحقهم.

تحقيق واتهام بالفرار!!
المتحدّث باسم وزارة الداخلية إياد البزم يشير إلى أن وزارته شكّلت بعد الحرب لجنة للتحقيق والوقوف على ملابسات عملية الإعدام، غير أنه بيّن أن الغرض منها استخلاص الدروس لعدم تكرار مثل هذه الأفعال.
على الرغم من تأكيد البزم أن القتل جرى على أيدي مسلحين من فصائل المقاومة الفلسطينية، إلا أنه يبيّن أن اللجنة تحقّق في ظروف إعدامهم بالتنسيق مع فصائل المقاومة التي كانت تعمل في الميدان للوصول إلى حقيقة ما جرى بالتحديد ومعالجة أي إشكاليات قد تقع في المستقبل!
ويلفت إلى أن جزء من التحقيق في اللجنة هو للتوصّل إلى " كيفية هروب المتهمين المعدومين" وإلقاء فصائل المقاومة القبض عليهم ومن ثم معرفة المعلومات الموجودة لديهم والإثباتات. نافياً بشكلِ قطعي تهمة "اختطاف" المسلّحين للمتّهمين من سجن الكتيبة.
متابعاً :"كنّا نجد صعوبة بالغة للحفاظ على حياة وأمن الموقوفين لدينا، قمنا بنقل الأمنيين منهم لأكثر من مكان خِشية استهدافهم، لكن خلال التنقّل هرب البعض، ويبدو أنهم اتجهوا إلى بعض المناطق الحدودية والخطوط المتقدّمة وتورّطوا في أعمالٍ عِدائية ضد الشعب والمقاومة، وحاولوا المساس بأمن المقاومة، وبالتالي ألقت القبض عليهم وأعدمتهم".

اتهام واهي..
غير أن المتحدّث باسم لجان المقاومة على ششنية، يؤكّد أنه لا علم لحزبه بفرار المتهمين بالتخابر مع إسرائيل من السجن. قائلاً إنهم لم يكونوا ينتظروا تلك المعلومات لعدم أهميتها :"أعطينا موافقة عامّة أننا مع قتل المتخابرين الذين تلطّخت أيديهم بدماء المجاهدين القادة، وسنقف إلى جانب الأجهزة الأمنية وقفة رجل واحد لتطهير مجتمعنا من هذه الفئة، لذلك لا حاجة لنا بتلك المعلومات".
فيما تكشف منسّقة وحدة تقصّي الحقائق وإدارة الشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بغزة المحامية صبحيّة جمعة أن معلومات توفّرت لدى الهيئة تفيد أنه حضر إلى السجن في الخامس من شهر أغسطس عناصر أمنية وطلبت أسماء أشخاص محدّدين لما قيل أنه سيتم نقلهم ضمن عمليات نقل داخلية.
وتضيف جمعة :"وتم بالفعل نقل خمسة أشخاص في ذلك اليوم، ومن ثم تم تبليغ أهاليهم للذهاب إلى مستشفى الشفاء لاستلام جثثهم. ونفس الحادثة حصلت في الثاني والعشرين من أغسطس، إذ جاءت أيضاً قوة أمن ونقلت أحد عشر نزيلاً من بينهم موقوفين، وأيضاً استلمتهم عائلاتهم جثثاً من الشفاء".
وللتأكّد أكثر، بحثنا في محرّك البحث "جوجل" عن أخبار منشورة حول فرار سجناء أمنيين متّهمين بالتخابر مع إسرائيل خلال الحرب، غير أننا لم نجد ما يشير من قريب أو بعيد لهذا الأمر خلال الحرب أو بعدها، حتى في الموقِعَيْن الخاصّين بوزارة الداخلية ومراكز التأهيل في غزة. ناهيك عن عدم توثيق أي حركة تشير إلى فرار بعضهم في سجلات الوزارة وسجن الكتيبة الذي تبيّن أنه لم يُخلى خلال الحرب من أي سجين متّهم بالتخابر.

شهادات 
على مدار أكثر من شهر ونصف، أجرى معد التحقيق لقاءات مع خمس عائلات ممن قُتل أبنائها خلال الحرب على يد المسلحين، من بينهم موقفين، وآخرين محكومين سنوات وإعدام من قبل المحاكم العسكرية التي حوكموا أمامها قبل الحرب، في انتظار البت في الاستئناف. 
"أ.ج"، والد أحد المعدومين الموقوفين منذ نحو عامين على تهمة التخابر مع إسرائيل، يقول في شهادته إنه ذهب إلى السجن يوم الخميس الموافق الحادي والعشرين من أغسطس لإيصال طعام الإفطار لابنه الذي كان صائما آنذاك، فيما تفاجأ في اليوم التالي بإعدامه ميدانيا بخمسة وثلاثين رصاصة.
ويضيف :"لم يفرّ ابني من السجن، والدليل أنني طلبت من الحرّاس إحضار المُرجع من الأواني والأدوات الخاصّة به منه مباشرة، وبالفعل جاءوا بها وأعطوني إياها، واتصل بي من داخل السجن بعد ساعات وشكرني على توصيل الطعام له". 
وأجمع محامو المتهمين المعدومين الذين التقيناهم على أنهم لم يهربوا، وإنما اقتيدوا من سجن الكتيبة ليتم تنفيذ الإعدام بحقهم. حيث يؤكد إيهاب جبر، محامي ستة منهم، أنه ومن خلال سؤاله للأمن المتواجد داخل سجن الكتيبة تبيّن بأن موكّليه اقتيدوا أثناء الحرب من السجن في ساعةٍ متأخرة من الليل وتم إعدامهم.
 
جرم مشهود
مع تأكيد الكثير من الجهات التي التقيناها كالادّعاء العام والقضاء العسكريين وعدد من الحقوقيين ووزارة الداخلية في غزة، على أن عمليات الإعدام غير قانونية. بالإضافة إلى وجود العديد من الصور والفيديوهات التي تؤكّد ارتكاب عملية الإعدام في وضح النهار وأمام مرأى آلاف المواطنين. ناهيك عن حصولنا على العديد من تبليغات الوفاة لعدد من المعدومين، والتي تؤكد وفاتهم رميا بالرصاص. كل تلك الأدلة تقودنا إلى جريمة مركّبة مكتملة الأركان. 
وتنص المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الثوري الفلسطيني للعام 1979 على أن :"الجُرم المشهود هو الذي يُشاهَد حال ارتكابه أو عند الانتهاء من ارتكابه. بالإضافة إلى الجرائم التي يُقبض على مرتكبيها بناءً على صراخ الناس إثر وقوعها أو يُضبط معهم أشياء أو أسلحة أو أوراق يُستدل منها أنهم فاعلوا الجرم وذلك في الأربع والعشرين ساعة من وقوع الجرم ، أو إذا وجدت بهم هذا الوقت أثار أو علامات تفيد ذلك".
فيما تتحدّث المادة 36 منه على أنه "إذا مات شخص قتلا أو بأسباب مجهولة باعثة على الشبهة فيستعين المدّعي العام بطبيب أو أكثر لتنظيم تقرير بأسباب الوفاة وبحالة جثة الميت وله أن يطلب من طبيب أو أكثر القيام بتشريح الجثة".
وحتى موعد نشر التحقيق، مرّ على إعلان وزارة الداخلية بغزة تشكيل لجنة للتحقيق في عمليات الإعدام أكثر من ثلاثة أشهر، ولم تعلن عن نتائجها بعد.
لطالما كانت القاعدة الإنسانية والقانونية الأصيلة "المتّهم برئ حتى تثبت إدانته"، هي الفيصل ما بين الإدانة أو البراءة لحثها القائمين على القانون للبحث والتحرّي للتأكيد أو النفي لما نُسب لأي شخص متهم، إلا أن الآية انقلبت، إذ أُدين المتهمون مباشرة، وكان مصيرهم الإعدام!!
 

 

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد