قبل سنوات، وحينما قامت إحدى الصحف الدنماركية بنشر الرسوم المسيئة لرسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم)، تذرع رئيس وزراء الدنمارك آنذاك، بعدم مقدرته على التدخل لدى صحيفة بلاده التي نشرت تلك الرسوم، بحجة أن بلاده تحترم حرية التعبير، ولا تستطيع التدخل فيما تنشره الصحف المستقلة. ومن وقتها سارت عدد من الصحف على النهج ذاته، لن يكون أخرها ما قامت به المجلة الفرنسية " شارلي إيبدو"، التي تعرض مقرها لهجوم أودى بحياة عدد من موظفيها، هذا في الوقت الذي رفضت فيه وسائل إعلام عالمية عرض مثل تلك الرسومات، مثل شبكة CNN الأميركية، ووكالة أسوشيتد برس وغيرها من وسائل الإعلام العالمية.
المبرر لوسائل الإعلام التي نشرت مثل هذه الرسوم هو حرية التعبير، حتى أن وزيرة العدل الفرنسية "كريستيان توبيرا"، علقت على انتقادات المجتمع الإسلامي لإعادة نشر صور جديدة مسيئة للرسول عبر مجلة "شارلي إيبدو"، بالقول " أن فرنسا يمكنها أن ترسم كل شيء حتى الأنبياء"، مؤكدة على حق فرنسا في السخرية من كل الأديان، -كما أفاد موقع فرانس 24-. والسؤال الموجه هنا للوزيرة الفرنسية، وللمجلات والصحف التي نشرت تلك الرسوم، هل حرية التعبير مطلقة، وتصل حدودها إلى الإساءة للآخرين ولمعتقداتهم واستفزاز مشاعرهم الدينية؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من توضيح معنى حرية التعبير، وأهميتها بالنسبة للفرد والمجتمع، فهي تعني حق كل إنسان في أن يصوغ آراءه وأفكاره ومعتقداته بحرية، وبالطريقة التي يراها مناسبة، سواء بالكلام أو الكتابة، أو بإجراء المظاهرات والمسيرات، أو عقد الاجتماعات الشعبية، وتنظيم مختلف أشكال الاحتجاج، إضافة إلى التعبير الحر عن الذات بواسطة الفنون والموسيقى وغيرها من الطرق، كما تعني حرية التعبير أن الإنسان حر في سماع الآخرين والإنصات لأقوالهم، والتعرف على آراءهم، كما تتضمن حق الإنسان في السكوت، وعدم الإفصاح عن آرائه إلا بإرادته الحرة.
والحق في التعبير مشمول في المواثيق الدولية، إذ نصت المادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن "لكل إنسان حق اعتناق الآراء دون مضايقة، ولكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها، ونقلها للآخرين دونما اعتبار للحدود...الخ". الأمر نفسه أكدت عليه المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي أكدت على أن " لكل شخص حق التمتع بحرية التعبير عن الرأي، يشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الآراء والأنباء والأفكار وتلقيها، ونقلها للآخرين بأي وسيلة دونما اعتبار للحدود".
حرية التعبير مهمة للفرد والمجتمع، حيث تمنح حرية التعبير الأفراد الفرصة للتعبير عن ذاتهم وتحقيق أنفسهم، وتمكّن الإنسان من أن يملك نفسه، ويعبر عن إرادته، الأمر الذي يجعله قادرا على الأخذ بزمام المبادرة، والتعاون والتفاعل الايجابي مع الآخرين، ومع القضايا العامة في مجتمعه، وقمع آراءه يتعارض مع طبيعته كإنسان، وينتقص من كرامته واحترامه، مما يجعله لا يملك نفسه، بل يعبر عن إرادة غيره.
كما أن حرية التعبير مهمة في السعي للوصول إلى الحقيقة، من خلال استعراض الآراء المختلفة ومناقشتها، فهي أداة تساعد في الكشف عن التوجهات والآراء الخطرة في المجتمع، الأمر الذي يسهم في التنبيه لها، وبالتالي العمل على مجابهتها. ومع مرور الوقت فإن التوجه أو الرأي الفاسد - الذي يطرحه صاحبه مستغلا حقه في التعبير عن الرأي- يسقط لصالح الرأي القوي والسديد، المبني على الحجة والبرهان، فيبقى هذا الرأي، لأنه يملك مقومات البقاء، ويسقط الرأي الفاسد أو الضعيف لأنه لا يملك نفس المقومات. وحرية التعبير مهمة للفرد والجماعة على حد سواء، لأنها تسهم في الوصول إلي الحقيقة التي يحتاجها الجميع، كما أنها تسهم في تعزيز قيم التسامح والمساواة والعدالة في المجتمع، لأنها انعكاس لحالة التعددية والتسامح، والرحب الفكري الواسع في المجتمع، وهي كذلك تسهم في تجذير النهج الديمقراطي في المجتمع، بما تتضمنه من حرية النقد، وبالتالي التقويم والتصويب للسياسات العامة.
يمكننا أن نميز بين أمرين في قضية حرية التعبير، الأول يتعلق بحق اعتناق الرأي، والثاني يتعلق بحق التعبير عن هذا الرأي، بالنسبة لحق اعتناق الرأي فهو مطلق، أما فيما يتعلق بحرية التعبير عن هذا الرأي، فإنه قد يُساء أحيانا استعمالها، ولذا فإن هذا الحق يخضع لبعض القيود، وهو ما أكدت عليه المادة ( 19) من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، بهدف الموازنة بين الحق في التعبير عن الرأي، وواجبات ومسؤوليات خاصة بممارسة هذا الحق، حيث نصت الفقرة (3) من المادة المذكورة على أنه " تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة (1) والفقرة (2) من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين وسمعتهم، ولحماية الأمن القومي، أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة". وفي السياق ذاته، نصت المادة (20) من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية على أنه " يحظر بالقانون أي دعاية للحرب، ويحظر بالقانون أي دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، وتشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف".
نلاحظ مما سبق أن الحق في التعبير عن الرأي ليس مطلقا، وأن هناك حدود وقيود على هذا الحق، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأسرار العسكرية التي يمكن أن يلحق إفشائها ضررا بالأمن القومي، أو ما يضر بالآداب العامة، أو النظام العام، أو يشكل تحريضا ودعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية.
وبناء على ما سبق، فإن ما قامت به المجلة الفرنسية، وغيرها من وسائل الإعلام التي نشرت تلك الرسوم، لا يدخل ضمن باب حرية التعبير، لأنه فعل مسيء للعرب والمسلمين، ويشكل دعوة للاستفزاز والكراهية، وإساءة لمشاعر المسلمين، وللرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، والتذرع بحرية التعبير عن الرأي لنشر مثل هذه الإساءات ليس منطقيا، وهو يخالف القانون الدولي أصلا. القائمون على مثل هذه الصحف والمجلات، يتعاملون بمعايير مزدوجة، فحينما يرتبط الأمر بالمسلمين فإن حرية التعبير مقدسة، حتى لو شكلت إساءة لهم، ودعوة للبغضاء والكراهية، وإن تعلق الأمر بغير المسلمين فيلتزمون بالقوانين الدولية. فهل تجرؤ هذه الصحف على نشر ما يسيء للأمن القومي في بلادها، وهل تستطيع نشر ما يغضب اليهود والصهاينة، أو نشر رسما واحدا يشير ولو عن بعد إلى المحرقة النازية لليهود، أو يشكك فيها، بالطبع لن تستطيع، وسينبري الكتاب والمثقفين وقادة الدول – وعلى رأسهم وزيرة العدل الفرنسية- في انتقاد ذلك وتجريمه، بدعوى أنه ليس حرية تعبير عن الرأي، وإنما دعوات للكراهية والاستفزاز، ومخالفة للقانون الدولي.
ما قامت به المجلة الفرنسية ومثيلاتها، من نشر الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، ليس حرية تعبير عن الرأي، وهو مخالف للقانون الدولي الذي أوردنا بعض نصوصه، ووقعت عليه الدول التي تحتضن هذه المجلات، وهو عمل استفزازي مثير للعداء والكراهية، ولا ينسجم مع هدف وفلسفة حرية التعبير. ولو أخضعنا ما قامت به المجلة الفرنسية ومثيلاها، للحكمة والفلسفة والهدف من حرية التعبير، سنجد أنها لم تضيف أية قيمة تذكر للإنسانية، ولم تسهم في الوصول لأية حقيقة، ولم تسهم في تعزيز قيم التسامح، بل على العكس تماما، شكلت دعوة للحقد والكراهية والتمييز، وحالة من التوتر وجو من الكراهية، وأذكت نار الفتنة لا أكثر.