فسحة للرأي

بركان غرداية في الجزائر

عدلي صادق |
بركان غرداية في الجزائر

كتب - عدلي صادق:   اندلعت في الجزائر الشقيقة، فتنة دامية انفجرت كبركان في قلب ووسط البلاد وشمالي صحرائها (ولاية غرداية). وطرفاها ظاهرياً، هما أتباع المذهب الأباضي وإخوتهم أتباع المذهب المالكي. أي أن النزاع لم يكن بين موالٍ ومعارض، أو بين الدولة وإسلامويين. وكأنما طرفا الخصومة يتمثلان طبيعة الصراع في أكثر من مسرح للحروب الداخلية العربية المجنونة، علماً بأن المناخ الفقهي لكل من المذهبين، لا يساعد المعتوهين على تخليق أسباب الاحتراب والإرهاب. لكن الذي حدث، أن ظاهرة الملثم الذي يمارس العنف ضد آخرين من أبناء وطنه، ويبطش بهم؛ انتقلت الى صحراء إسلامية عربية معروفة تاريخياً بنقاء سرائر أهلها وتراحمهم، سواء كانوا من الميزابيين، المتحدرين من قبائل زناتة الأمازيغية، الذين استوطنوا المنطقة منذ العصر الحجري قبل الإسلام،  أم كانوا من قبائل بني سليم الشعانية العربية، راعية الإبل التي وفدت الى غرداية أو انتشرت في الواحات منذ صدر الإسلام. ففي بني ميزاب، كان الناس أخوة، يحمون لغة القرآن العربية، من رياح المستعمر، وكانوا من حماة الإسلام الأشد مضاءً، ونافحوا معاً، عن خصوصية الشخصية الوطنية الجزائرية. ومن مجتمع غرداية ونواحيها تحديداً، خرج مفسرو قرآن بارزون، وشعراء مجيدون، وبنّاؤون شادوا قصوراً عُدت من التراث الحضاري العالمي. وكان مُفدي زكريا، ابن وادي بني ميزاب في غرداية، المولود في  أحد  قصورها التاريخية، هو صاحب القصيدة التي اعتمدتها الثورة نشيداً وطنياً، لكي يردد الجزائريون جيلاً بعد جيل، قسم الولاء للجزائر! الفتنة تضرب في بقعة عزيزة تلو الأخرى. هذه المرة نحن بصدد دماء تُسفك في الجزائر، صاحبة الأفضال على مناضلي العالم وايقونة حركات التحرر المنتصرة، بعد أن تشافت من جراح نزاع طويل مع الإرهاب. ولا بد من وضع بعض النقاط على بعض المفردات، لكي تستدرك الطبقة السياسية الجزائرية الأمر، قبل أن يستفحل العنف الأهلي والمجتمعي وهو أخطر من العنف بين الدولة والمتطرفين الإرهابيين. فنحن في ولاية غرداية، بصدد مشكلة مر على تفاقمها أكثر من عامين ونصف العام. وأبرمت بين طرفيها، وبرعاية الدولة، وثيقة صلح قبل عامين، لكن الطرفين نكثا بها بسبب ضعف المتابعة وخلو وفاض الإدارة الحكومية، من العزم على بذل جهد ثقافي واجتماعي لتسخيف أسباب النزاع، ومن العزم على مباشرة إصلاح إداري ديمقراطي، لمنع استمرار الاحتقان من جراء تشابك مصالح فاسدين من كل الأطياف. بدأت المشكلة بمناكفات لفظية، ثم تطورت الى شجارات بالشماريخ والعصي والقضبان، ثم تطورت الظاهرة لتصبح أعمال عنف طائفي، وحرق للمحال والمزارع، وتهجيراً للسكان، ومجموعات ملثمين تحمل أسلحة نارية، تلقوها عبر خطوط الإمداد التي يفتحها جواسيس ومشبوهون وتجار مخدرات، يتلطون بالجهاد، الى سيناء واليمن وسوريا والعراق لخلط الحابل بالنابل. وتقول المراجع الانجليزية التي تنقل عن الفرنسيين، إن أصل المصيبة في غرداية ذات السوق المزدهرة، هو من صنع منتفعين، عرباً وأمازيغ، من الوسطين التجاري المحلي والإداري الحكومي. فقد تشابكت مصالح هؤلاء الذين تواصلوا مع تجار مخدرات ومع ناشطي عالم سفلي يكمنون في حارة كانت قديماً لليهود في غرداية. وفي مثل هذا المناخ المحلي، العفن وسطه التجاري والإداري؛ تنمو العائلية وتخرج النعرات من قمقمها، ويزداد الاحتقان الطبقي، ويفتش أصحاب مشروعات خراب الديار عن حكاية تصلح موضوعاً لأن يدق الناس في بعضهم، وليس أوفر من الشروحات الدينية وتأويلاتها الخلافية، على صعيد هذه الحكايات، إذ  يكفي - مثلاً - أن يثير أحد الموتورين، خلافاً حول ما اذا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عندما أسرى الى الأقصى وعرج الى السماء، قد شاهد بعينيه وجه الرب، أو لم يشاهد، وما إذا كان أهل الجنة سيرون بأمهات عيونهم وجه الله الكريم، أو لن يروه. فالأباضية تقول بسند قرآني: لن يروه، فهو الذي يُدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار، والمالكية تقول بسند قرآني: وجوه يومئذٍ ناضرة، الى ربها ناظرة". هنا ان تشتعل الخناقة، فتتطور الى خصومة مفتعلة، في إطار مجتمعات مأزومة يلعب فيه الديوسون دور الشيطان. وكأن قلق المؤمن وأولويته في حياته هو أن يعلم هل سيرى أم لا يرى بعينيه وجه الله حين يُحال الى الجنة في يوم القيامة. إن جوهر المشكلة هو الدنانير، التي تجعل أهل الفتن، يحبطون كل محاولة  للتهوين من هذه المسائل وتأثيم الموتورين، أو أولئك الذين يجعلون التأويلات التفصيلية السخيفة، هي العناصر التي تعصف بالسلم الأهلي، وتحسم أجندات المستقبل، وترتهن لها حياة الناس ورزقها وأمنها! 

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد