كتب - احمد دحبور: ليست هذه هي المرة الأولى التي اكتب فيها خاطرة تحت هذا العنوان الطريف، فقد سبق لي ان فعلت هذا قبل ثلاثة عقود، وكنت – ولا ازال – اتوق الى ثلاثة اسماء شعرية عربية، جمع بينها الانتهاء الى مصدر الفوز، وتوقف اصحابها عن الكتابة – او عن النشر على الاقل – من غير تفسير لهذا الصمت الاليم. اما هؤلاء الثلاثة، من غير مفاضلة في ترتيب الاسماء، فهم الشاعر العراقي فوزي كريم، وكان اصدقاؤه يداعبونه بترديد اسمه كاملا: فوزي كريم طعمة الطائي، والشاعر الاردني فايز صياغ صاحب النكهة الجمالية الفنية حتى لتميزه – على ابتعاد الزمن – بين الكثيرين من شعراء عصره، والشاعر الفلسطيني فواز عيد الذي كان يصفه علي كنعان، الشاعر السوري الكبير، بأنه "اشعر جيلنا". فماذا فعل الدهر بهذه الاسماء التي كانت ساطعة؟ واين هؤلاء الشعراء الآن؟ ربما تميز فوزي كريم في هذه الكوكبة النادرة، بعمله في النقد الادبي حتى ان علما بارزا مثل الراحل الكبير محمود درويش كان يقول انه حائر في تصنيفه المفضل؟ هل هو الشاعر ام الناقد؟ وفايز صياغ الشاعر الاردني بخطابه المتأني الانيق العميق، وفواز عيد الشاعر الفلسطيني الحميم الذي رحل فجأة تاركا اثرا لن ينساه العارفون.. اما لماذا يصمت الشعراء وهم في اوج العطاء، فهو سؤال لا جواب عنه ولا تفسير له، وارجو لهذه المناسبة ان القي بصيص ضوء على ذكراهم، مع اعترافي بحضورهم في ذاكرتي وذائقتي حتى يقوم الاشهاد.. بالنسبة الى فوزي كريم، فإني اتذكر صوته الرخيم القوي الذي كان يدفع الشاعر الكبير البياتي الى التساؤل صادقا: لماذا لا ينصرف فوزي الى الغناء مع احتفاظه بأدائه الشعري الباهر؟ ولن انسى – وكيف انسى – غناءه لاحد مقاطعه الشعرية المكتوبة قبل اربعة عقود، وفيها: من وقع الماء على عطشي من وقع الماء اتعلم بضع اغان او اشياء: واحدة سأعيش فقيرا، ثانية: وسأنعم بالثورة، ثالثة، وسأقتل من أجل امرأة، لم ارها إلا في حلمي وأذكر ان سيدة مشهورة، تتميز بجمال فريد، قد صاحت بعد سماع هذا المقطع: ليتني تلك السيدة التي لم تحلم بها، فأنا من الواقع، وأنا سعيدة بمعرفتك.. وليتك تحلم بي، أما فواز صياغ فهو نسيج وحده، ولعلي لم اشعر بالغيرة في حياتي كما شعرت بها حيال فواز، والى ذلك لم يكن يهمه رأي النقاد، ولسان حاله: العالم قريتي، وكان قانعا بتلك القرية وان خذلها بصمته المفاجئ الذي لا تفسير له ولا يمكن التماس الاسباب في شأنه.. ويبقى فواز عيد الذي لم يبق بيننا، فقد آثر الرحيل مبكرا، تاركا حسرة في نفوس معارفه وقرائه، ولن انسى تصريح الراحل محمود درويش عندما سألته مجلة الآداب – وكان لا يزال مقيما في حيفا – ان الصوت الذي فاجأه ويتمنى معرفته هو صوت فواز عيد.. واذا كنا لا نستطيع الاحتجاج على صمت فواز بعد رحيله الفاجع، فلي ان احتج واسأل زميليه هذين عن سر صمتهما القاسي، مع انهما يوم سكتا، كانا ملء المشهد الادبي.. وحتى لا اكون مثل الشاب الذي تغرب، او الشيخ الذي مات ابناء جيله، فإنني استحضر هذه الاسماء التي ظلت يانعة حتى بعد مرور عشرات السنين، وأكاد أصيح على البعد: أين أنت يا فوزي؟ أين أنت يا فايز؟ والرحمة لنظيركما فواز.. وهي مناسبة لاستأذن بالخروج عن الموضوع؟، وتقديم التحية لمجلة الآداب البيروتية، ولمؤسسها الراحل الكبير د. سهيل ادريس، فمن خلال نافذة الآداب اطل جيلنا على هذا المشهد الابداعي البهي، ولأن الدنيا لا يزال فيها الخير، فعزائي ان معظم القراء المعنيين لن ينسوا للآداب تلك اليد البيضاء، ولعل تلك اليد البيضاء تكمل معروفها فتعيد طباعة اعمال هؤلاء الشعراء الثلاثة، وبخاصة أنهم شأن جيلهم والاجيال اللاحقة، من خريجي مدرسة الآداب.. ولعل استذكار هذه الكوكبة من الموهوبين المحتجبين عن الاضواء، يثير في دخيلتي سؤالا غامضا عما اذا كان ثمة رابط بين ظهورهم المفاجئ واحتجابهم الاكثر مفاجأة ولا توجعوا رؤوسكم رجاء بافتراض سبب لذلك، فالشعر – في احد احتمالاته – يظل سرا مكنونا يخص صاحبه وحده، ولقد كان من المؤثرين في تركيبي الثقافي، واحد من هؤلاء الصامتين، هو الشاعر المرحوم موريس قبق الذي ظهر في حمص كانفجار الوردة، واحدث صمته المفاجئ وغير المفهوم حيرة يشهد لها المثقفون الذين عاصروا موريس وفتنوا بطلعته البهية شاعرا وانسانا، يقال ان المخابرات قد استدعته ذات يوم لاستفسار عابر لم يستمر أكثر من نصف ساعة، فقال حينها: ان بلادا تحاسب الشاعر على ما لا تعرف وما لا تعلم، هي بلاد مضادة للشعر، واضرب عن انتاج الشعر طيلة بقية عمره البالغ بضعة وستين عاما، مع انه – حين توقف – كان في ذروة الالق والعطاء. وآمل الا اغادر هذا الموريس قبل تصفية حساب ذاكرتي معه بوصفه المعلم والدليل على المستويين الانساني والشعري.. ويقينا ان في جعبتي الكثير مما يخص هذا الشاعر الاستثنائي الذي لا اعرف ما كنت سأصل اليه لولا ظهوره في حياتينا: انا وصديق العمر الشاعر نزيه ابو عفش.. وعزائي اني ما التقيت أبا عمر – وهو صديقي نزيه – الا وكانت سيرة المرحوم موريس قبق مهيمنة على لقائنا بضع ساعات.. بقي ان اتوجه بالشكر الحميم لاصحاب المناسبة، فوزي وفايز وفواز، لان ذكراهم هي التي فجرت في روحي هذا الفصل الجميل من عمري المتواضع.. واشهد ان فوازا، رحمه الله، قد صارحني ذات يوم بأنني صدعت رأسه أنا وذكرياتي عن موريس حتى بات يظن ان موريس هذا شخص حقيقي وليس شبحا في خيالي!! اما فوزي – الذي كان يميل الى التنظير – فرأى انه اذا كانت روايتي عن موريس ليست خيالا، فهو شاعر عابر للزمن، وقد يظهر شيء من نتاجه حتى بعد ان اختفى عن دنيانا، فيما ذهب فايز الى انني ربما اكون أسأت لموريس يوما، وما الحاحي على اسمه بعد هذه السنوات الا علامة عن تكفير وعن ذنب لست ادري متى اقترفته.. ولكن السيدة منى عبد المسيح، رفيقة عمر موريس وأم ولديه كانت تغبطني بالقول ان زوجها كان رجلا صالحا بدليل ان في تاريخه تلميذا مخلصا له اسمه احمد.. والواقع ان هذا الكلام بقدر ما يسعدني، فإنه صدى للدين الذي في عنقي لهذه القامة الانسانية الشاعرة.. وأخيرا، ودائما، شكرا لفايز وفوزي وفواز الذين اطلت ملامحهم من ذاكرتي المكدودة فكانت بردا وسلاما على ما يمكن ان اكون قد عشته من زمن جميل.